سورة يس - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


الضمير في {لهم} لقريش، و{ما بين أيديكم}، قال قتادة ومقاتل: عذاب الأمم قبلكم، {وما خلفكم}: عذاب الآخرة. وقال مجاهد: عكسه. وقال الحسن: خوفوا بما مضى من ذنوبهم وما يأتي منها. وقال مجاهد أيضاً، كقول الحسن: {ما تقدم من} ذنوبكم وما تأخر، {لعلكم ترحمون}. وجواب إذا محذوف يدل عليه ما بعده، أي أعرضوا. {وما تأتيهم من آية}: أي دأبهم الإعراض عند كل آية تأتيهم. {وإذا قيل لهم أنفقوا}: لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين، قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به، وكان ذلك بمكة أولاً قبل نزول آيات القتال، فندبهم المؤمنون إلى صلة قراباتهم فقالوا: {أنطعم من لو شاء الله أطعمه}. وقيل: سحق قريش بسبب أذية المساكين من مؤمن وغيره، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة عليهم، فقالوا هذا القول. وقيل: قال فقراء المؤمنين: أعطونا ما زعمتم من أموالكم، إنها لله، فحرموهم وقالوا ذلك على سبيل الاستهزا. وقال ابن عباس: كان بمكة زنادقة، إذا أمروا بالصدقة قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطمعه نحن؟ أو كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله: لو شاء الله لأغنى فلاناً، ولو شاء لأعزه، ولو شاء لكان كذا، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون. وقال القشيري: نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع، استهزاء بالمسلمين بهذا القول.
وقال الحسن: {وإذا قيل لهم}، أي اليهود، أمروا بإطعام الفقراء. وجواب لو نشاء قوله: اطعمهم، وورود الموجب بغير لام فصيح، ومنه: {أن لو نشاء أصبناهم} {لو نشاء جعلناه أجاجاً} والأكثر مجيئه باللام، والتصريخ بالموضعين من الكفر والإيمان دليل على أن المقول لهم هم الكافرون، والقائل لهم هم المؤمنون، وأن كل وصف حامل صاحبه على ما صدر منه، إذ كل إناء بالذي فيه يرشح. وأمروا بالانفاق {مما رزقكم الله}، وهو عام في الإطعام وغيره، فأجابوا بغاية المخالفة، لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق العام، فكأنهم قالوا: لا ننفق، ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم، وهو الإطعام الذي به يفتخرون، وهذا على سبيل المبالغة. كمن يقول لشخص: أعط لزيد ديناراً، فيقول: لا أعطيه درهماً، فهذا أبلغ لا أعطيه ديناراً. والظاهر أن قوله: {إن أنتم إلا في ضلال مبين} من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين، أي حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد الله إطعامه، إذ لو أراد الله إطعامه لأطعمه هو. ويجوز أن يكون من قول الله لهم استأنف زجرهم به، أو من قول المؤمنين لهم. ثم حكي تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل: لما توعدون به؟ أي متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننا به؟ أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به؟ وهو سؤال على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى، ولا يتقي إلا مما يخاف، وهم غير مؤمنين.
سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم.
{ما ينظرون}: أي ما ينتطرون. ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها، وهذه هي النفخة الأولى تأخذهم فيهلكون، وهم يتخاصمون، أي في معاملاتهم وأسواقهم، في أماكنهم من غير إمهال لتوصية، ولا رجوع إلى أهل. وفي الحديث: «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه، فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يرفع أكلته إلي فيه، فما تصل إلي فيه حتى تقوم» وقيل: لا يرجعون إلى أهلهم قولاً؛ وقيل: ولا إلى أهلهم يرجعون أبداً. وقرأ أبي: يختصمون على الأصل؛ والحرميان، وأبو عمرو، والأعرج، وشبل، وابن فنطنطين: بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء؛ وأبو عمرو أيضاً، وقالون: يخالف بالاختلاس وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم؛ وباقي السبعة: بكسر الخاء وشد الصاد؛ وفرقة: بكسر الياء إتباعاً لكسرة الخاء وشد الصاد. وقرأ ابن محيصن: يرجعون، بضم الياء وفتح الجيم. وقرأ الأعراج: في الصور، بفتح الواو؛ والجمهور: بإسكانها. وقرئ: من الأجداف، بالفاء بدل الثاء. وقرأ الجمهور: بالثاء، وينسلون، بكسر السين؛ وابن أبي إسحاق، وأبو عمرو: بخلاف عنه بضمها. وهذه النفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها. ولا تنافر بين {ينسلون} وبين {فإذا هم قيام ينظرون} لأنه لا ينسل إلا قائماً، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد.
وقرأ ابن أبي ليلى: يا ويلتنا، بتاء التأنيث؛ وعنه أيضاً: يا ويلتى، بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة، ومعنى هذه القراءة: أن كل واحد منهم يقول يا ويلتى. والجمهور: و{من بعثنا}: من استفهاما، وبعث فعل ماض؛ وعلي، وابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك: من حرف جر، وبعثنا مجرور به. والمرقد: استعارة عن مضجع الميت، واحتمل أن يكون مصدراً، أي من رقادنا، وهو أجود. أو يكون مكاناً، فيكون المفرد فيه يراد به الجمع، أي من مراقدنا. وما روي عن أبيّ بن كعب ومجاهد، وقتادة: من أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر، فقالوا: هو غير صحيح الإسناد. وقيل: قالوا من مرقدناً، لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم. والظاهر أن هذا ابتداء كلام، فقيل: من الله، وعلى سبيل التوبيخ والتوقيف على إنكارهم. وقال الفراء: من قول الملائكة. وقال قتادة، ومجاهد: من قول المؤمنين للكفار، على سبيل التقريع. وقال ابن زيد: من قول الكفرة، أو البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا، قالوا ذلك. والاستفهام بمن سؤال عن الذي بعثهم، وتضمن قوله: {هذا ما وعد الرحمن}، ذكر الباعث، أي الرحمن الذي وعدكموه، وما يجوز أن تكون مصدرية على سمة الموعود، والمصدر فيه بالوعد والصدق، وبمعنى الذي، أي هذا الذي وعده الرحمن.


لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة، أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء. والظاهر أنه إخبار لنا بما يكونون فيه إذا صاروا إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب. وقيل: هو حكاية ما يقال في ذلك اليوم، وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود له في النفوس، وترغيب إلى الحرص عليه وفيما يثمره؛ والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال. وقال قريباً منه مجاهد، وبعضهم خص هذا الشغل بافتضاض الأبكار، قاله ابن عباس؛ وعنه أيضاً: سماع الأوتار. وعن الحسن: شغلوا عن ما فيه أهل النار. وعن الكلبي: عن أهاليهم من أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا. وعن ابن كيسان: الشغل: التزاور. وقيل: ضيافة الله، وأفرد الشغل ملحوظاً فيه النعيم، وهو واحد من حيث هو نعيم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: بضم الشين وسكون الغين؛ وباقي السبعة بضمها؛ ومجاهد، وأبو السمال، وابن هبيرة فيما نقل ابن خالويه عنه: بفتحتين؛ ويزيد النحوي، وابن هبيرة، فيما نقل أبو الفضل الرازي: بفتح الشين وإسكان الغين. وقرأ الجمهور: {فاكهون}، بالألف؛ والحسن، وأبو جعفر، وقتادة، وأبو حيوة، ومجاهد، وشيبة، وأبو رجاء، ويحيى بن صبيح، ونافع في رواية: بغير ألف؛ وطلحة، والأعمش: فاكهين، بالألف وبالياء نصباً على الحال، وفي شغل هو الخبر. فبالألف أصحاب فاكهة، كما يقال لابن وتامر وشاحم ولاحم، وبغير ألف معناه: فرحون طربون، مأخوذ من الفكاهة وهي المزحة، وقرئ: فكهين، بغير ألف وبالياء. وقرئ: فكهون، بضم الكاف. يقال: رجل فكه وفكه، نحو: يدس ويدس. ويجوز في هم أن يكون مبتدأ، وخبره في ظلال، ومتكئون خبر ثان، أو خبره متكئون، وفي ظلال متعلق به، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في فاكهون، وفي ظلال حال، ومتكئون خبر ثان لأن، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في شغل، المنتقل إليه من العامل فيه.
وعلى هذا الوجه والذي قبله يكون الأزواج قد شاركوهم في التفكه والشغل والاتكاء على الأرائك، وذلك من جهة المنطوق. وعلى الأول، شاركوهم في الظلال والاتكاء على الأرائك من حيث المنطوق، وهن قد شاركنهم في التفكه والشغل من حيث المعنى. وقرأ الجمهور: {في ظلال}. قال ابن عطية: وهو جمع ظل، إذ الجنة لا شمس فيها، وإنما هواؤها سجسج، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس. انتهى. وجمع فعل على فعال في الكثرة، نحو: ذئب وذئاب. وأما أن وقت الجنة كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس، فيحتاج هذا إلى نقل صحيح. وكيف يكون ذلك؟ وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة، لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا، أو نحو من هذا؟ قال: ويحتمل أن يكون جمع ظلة. قال أبو عليّ: كبرمة وبرام.
وقال منذر بن سعيد: جمع ظلة، بكسر الظاء. قال ابن عطية: وهي لغة في ظلة. انتهى. فيكون مثل لقحة ولقاح، وفعال لا ينقاس في فعلة بل يحفظ. وقرأ عبد الله، والسلمي، وطلحة، وحمزة، والكسائي: في ظل جمع ظلة، وجمع فعلة على فعل مقيس، وهي عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل. وقرأ عبد الله: متكئين، نصب على الحال؛ ويدعون مضارع ادعى، وهو افتعل من دعا، ومعناه: ولهم ما يتمنون. قال أبو عبيدة: العرب تقول ادع علي ما شئت، بمعنى تمن عليّ وتقول فلان في خبر ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقيل: يدعون به لأنفسهم. وقيل: يتداعونه لقوله ارتموه وتراموه.
وقرأ الجمهور: سلام بالرفع. وهو صفة لما، أي مسلم لهم وخالص. انتهى. ولا يصح إن كان ما بمعنى الذي، لأنها تكون إذ ذاك معرفة. وسلام نكرة، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. فإن كانت ما نكرة موصوفة جاز، إلا أنه لا يكون فيه عموم، كحالها بمعني الذي. وقيل: سلام مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله: {قولاً}، أي سلام يقال، {قولاً من رب رحيم}، أو يكون عليكم محذوفاً، أي سلام عليكم، {قولاً من رب رحيم}. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي هو سلام. وقال الزمخشري: {سلام قولاً} بدل من {ما يدعون}، كأنه قال: لهم سلام يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم، والمعنى: أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس: والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. انتهى. وإذا كان سلام بدلاً من ما يدعون خصوصاً. والظاهر أنه عموم في كل ما يدعون، وإذا كان عموماً، لم يكن سلام بدلاً منه. وقيل: سلام خبر لما يدعون، وما يدعون مبتدأ، أي ولهم ما يدعون سلام خالص لا شرب فيه، وقولاً مصدر مؤكد، كقوله: {ولهم ما يدعون سلام}: أي عدة من رحيم. قال الزمخشري: والأوجه أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه. انتهى. ويكون لهم متعلقاً على هذا الإعراب بسلام. وقرأ محمد بن كعب القرظي: سلم، بكسر السين وسكون اللام، ومعناه سلام. وقال أبو الفضل: الرازي: مسالم لهم، أي ذلك مسالم. وقرأ أبيّ، وعبد الله، وعيسى، والقنوي: سلاماً، بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: نصب على الحال، أي لهم مرادهم خالصاً.
{وامتازوا اليوم}: أي انفردوا عن المؤمنين، لأن المحشر جمع البر والفاجر، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين. والظاهر أن ثم قولاً محذوفاً لما ذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله: {سلام قولاً من رب رحيم}، قيل: ويقال للمجرمين: {امتازوا}. ولما امتثلوا ما أمروا به، قال لهم على جهة التوبيخ والتقريع: {ألم أعهد إليكم}؟ وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه.
وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى، فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض. وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير. والعهد: الوصية، عهد إليه إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركز فيهم من أدلة العقل، وأنزل إليهم من أدلة السمع. وعبادة الشياطين: طاعته فيما يغويه ويزينه. وقرأ الجمهور: أعهد، بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة، والهذيل بن شرحبيل الكوفي: بكسر الهمزة، قاله صاحب اللوامح، وقال لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة، يعني: نعهد وتعهد. وقال ابن خالويه: ألم أعهد؛ يحيى بن وثاب: ألم أحد، تميم. وقال ابن عطية: وقرأ الهذيل ابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء. وروي عن ابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الهاء، يقال: عهد يعهد. انتهى. وقوله: بكسر الميم والهمزة يعني أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة، لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو الميم. اعهد بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظاً، لأن هذا لا يجوز. وقال الزمخشري: وقرئ أعهد بكسر الهمزة، وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء؛ وأعهد بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم، وضرب يضرب، وأحهد بالحاء وأحد، وهي لغة تميم، ومنه قولهم: دحا محا. انتهى. وقوله: إلا في الياء، لغة لبعض كلب أنهم يكسرون أيضاً في الياء، يقولون: هل يعلم؟ وقوله: دحا محا، يريدون دعها معها، أدغموا العين في الحاء، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم معصيه الشيطان وطاعة الرحمن.
وقرأ نافع، وعاصم: {جبلاً}، بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وهي قراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء؛ والحسن: بخلاف عنه. وقرأ العربيان، والهذيل بن شرحبيل: بضم الجيم وإسكان الباء؛ وباقي السبعة: بضمها وتخفيف اللام؛ والحسن بن أبي إسحاق، والزهري، وابن هرمز، وعبدالله بن عبيد بن عمير، وحفص بن حميد: بضمتين وتشديد اللام؛ والأشهب العقيلي، واليماني، وحماد بن مسلمة عن عاصم: بكسر الجيم وسكون الباء؛ والأعمش: جبلاً، بكسرتين وتخفيف اللام. وقرئ: جبلاً بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام، جمع جبلة، نحو فطرة وفطر، فهذه سبع لغات قرئ بها. وقرأ علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين: جيلاً، بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف، واحد الأجيال؛ والجبل بالباء بواحدة من أسفل الأمة العظيمة. وقال الضحاك: أقله عشرة آلاف. خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان تقريعاً لهم. وقرأ الجمهور: {أفلم تكونوا} بتاء الخطاب؛ وطلحة، وعيسى: بياء الغيبة، عائداً على جبل.
ويروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم وأهاليهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «يقول العبد يوم القيامة: إني لا أجيز عليّ شاهد إلا من نفسي فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقال: بعداً لكنّ وسحقاً، فعنكنّ كنت أناضل».
وقرئ: يختم مبنياً للمفعول، وتتكلم أيديهم، بتاءين. وقرئ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروي عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد، بلام كي والنصب على معنى: وكذلك يختم على أفواهم. والظاهر أن الأعين هي الأعضاء المبصرة، والمعنى: لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون، قاله الحسن وقتادة، ويؤيده مناسبة المسخ، فهم في قبضة القدرة وبروج العذاب إن شاءه الله لهم. وقال ابن عباس: أراد عين البصائر، والمعنى: ولو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحد أبداً. والطمس: إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد. فإن أريد بالأعين الحقيقة، فالظاهر أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة، ويجوز أن يكون الطمس يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره. وقرأ الجمهور: {فاستبقوا}، فعلاً ماضياً معطوفاً على {لطمسنا}، وهو على الفرض والتقدير. والصراط منصوب على تقدير إلى حذفت ووصل الفعل، والأصل فاستبقوا إلى الصراط، أو مفعولاً به على تضمين استبقوا معنى تبادروا، وجعله مسبوقاً إليه. قال الزمخشري: أو ينتصب على الظرف، وهذا لا يجوز، لأن الصراط هو الطريق، وهو ظرف مكان مختص. لا يصل إليه الفعل إلا بوساطة في إلا في شذوذ، كما أنشد سيبويه:
لدن بهز الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومذهب ابن الطراوة أن الصراط والطريق والمخرم، وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة، فعلى مذهبة يسوع ما قاله الزمخشري. وقرأ عيسى: فاستبقوا على الأمر، وهو على إضمار القول، أي فيقال لهم استبقوا الصراط، وهذا على سبيل التعجيز، إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين. {فأنى يبصرون}: أي كيف يبصر من طمس على عينه؟ والظاهر أن المسخ حقيقة، وهو تبديل صورهم بصور شنيعة. قال ابن عباس: {لمسخناهم} قردة وخنازير، كما تقدم في بني إسرائيل؛ وقيل حجارة. وقال الحسن، وقتادة، وجماعة: لأقعدناهم وأزمناهم، فلا يستطيعون تصرفاً. والظاهر أن هذا لو كان يكون في الدنيا. وقال ابن سلام: هذا التوعد كله يوم القيامة. وقرأ الحسن: {على مكانتهم}، بالافراد، وهي المكان، كالمقامة والمقام. وقرأ الجمهور، وأبو بكر: بالجمع. والجمهور: {مضياً}، بضم الميم: وأبو حيوة، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي: بكسرها اتباعا لحركة الضاد، كالعتبى والقتبى، وزنه فعول. التقت واو ساكنة وياء، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها لتصح الياء.
وقرئ: مضياً، بفتح الميم، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل، كالرسيم والوجيف.
ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه، ذكر تعالى دليلاً على باهر قدرته في تنكيس المعمر، وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى. وتنكيسه: قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولاً، وهو أنه خلقه على ضعف في جسد وخلو من عقل وعلم، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال، إن أن يبلغ أشده وتستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه. فإذا انتهى نكسه في الخلق، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبا في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من الفهم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، وفي هذا كله دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس وأن يفعل بهم ما أراد. وقرأ الجمهور: {ننكسه}، مشدداً؛ وعاصم، وحمزة: مخففاً. وقرأ نافع، وابن ذكوان، وأبو عمرو في رواية عباس: تعقلون بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة: بياء الغيبة.
{وما علمناه الشعر}: الضمير في علمناه للرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون فيه شاعر. وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط، فنفى الله ذلك عنه، وقولهم فيه شاعر. أما من كان في طبعه الشعر، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر؛ وأما من ليس في طبعه، فقوله جهل محض. وأين هو من الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده، فضلاً عن إنشائه: وكان عليه السلام لا يقول الشعر، وإذا أنشد بيتاً أحرز المعنى دون وزنه، كما أنشد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك من لم تزود بالأخبار
وقيل: من أشعر الناس، فقال الذي يقول:
ألم ترياني كلما جئت طارقا *** وجدت بها وإن لم تطيب طيباً
أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بين الأقرع وعيينة
وأنشد يوماً:
كفى بالاسلام والشيب ناهياً ***
فقال أبو بكر وعمر: نشهد أنك رسول الله، إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام، وربما أنشد البيت متزناً في النادر. وروي عنه أنشد بيت أبن رواحة:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ولا يدل إجراء البيت على لسانه متزناً أنه يعلم الشعر، وقد وقع في كلامه عليه السلام ما يدخله الوزن كقوله:
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
وكذلك قوله:
هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
وهو كلام من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته، من غير صنعة فيه ولا قصد لوزن ولا تكلف. كما يوجد في القرآن شيء موزون ولا يعد شعراً، كقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}
وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء، ولا يسمى ذلك شعراً، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر. {وما ينبغي له}: أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب، لأنه عليه السلام في طريق جد محض، والشر أكثره في طريق هزل، وتحسين لما ليس حسناً، وتقبيح لما ليس قبيحاً ومغالاة مفرطة. جعله تعالى لا يقرض الشعر، كما جعله أمياً لا يخط، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وقيل: في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر، وقد قال عليه السلام: «ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي» وذهب قوم إلى أنه لا غضاضة فيه، وإنما منعه الله نبيه عليه الصلاة والسلام. وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن من قبله أغرب، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن: هذا من تلك القوة. قال ابن عطية: وليس الأمر عندي كذلك، وقد كان عليه السلام من الفصاحة والبيان في النثر في الرتبة العليا، ولكن كلام الله يبين بإعجازه ويندر بوصفه، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام؛ وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعاً له عن ما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول. وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعر، وهذا كان أسلوب كلامه، عليه السلام، وقولاً واحداً. انتهى. والضمير في له للرسول، أي وما ينبغي الشعر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن، أي وما ينبغي الشعر للقرآن، ولم يجر له ذكر، لكن له أن يقول: يدل الكلام عليه، ويبينه عود الضمير عليه في قوله: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين}: أي كتاب سماوي يقرأ في المحاريب، وينال بتلاوته والعمل به ما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين؟ وقرأ نافع، وابن عامر: لتنذر بتاء الخطاب للرسول؛ وباقي السبعة: بالياء للغيبة، فاحتمل أن يعود على الرسول، واحتمل أن يعود على القرآن. وقرأ اليماني: {لينذر}، بالياء مبنياً للمفعول، ونقلها ابن خالويه عن الجحدري. وقال عن أبي السمال واليماني أنهما قرآ: لينذر، بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال، إذا علم بالشيء فاستعد له. {من كان حياً}: أي غافلاً، قاله الضحاك، لأن الغافل كالميت؛ ويريد به من حتم عليه بالإيمان، وكذلك قابله بقوله: {ويحق القول}: أي كلمة العذاب، {على الكفارين} المحتوم لهم بالموافاة على الكفر.


الإخبار وتنبيه الاستفهام لقريش، وإعراضها عن عبادة الله، وعكوفها على عبادة الأصنام. ولما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد، عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله: {مما عملت أيدينا}: أي مما تولينا عمله، ولا يمكن لغيرنا أن يعمله. فبقدرتنا وإرداتنا برزت هذه الأشياء، لم يشركنا فيها أحد، والباري تعالى منزه عن اليد التى هي الجارحة، وعن كل ما اقتضى التشبيه بالمحدثات. وذكر الأنعام لها لأنها كانت جل أموالهم، ونبه على ما يجعل لهم من منافعها. {لها مالكون}: أي ملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع بها، أو {مالكون}: ضابطون لها قاهرونها، من قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا
أي: لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة. فلولا تذليله تعالى إياها وتسخيره، لم يقدر عليها. ألا ترى إلى ما ندَّ منها لا يكاد يقدر على ردة؟ لذلك أمر بتسبيح الله راكبها، وشكره على هذه النعمة بقوله بقوله: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} وقرأ الجمهور: {ركوبهم}، وهو فعول بمعنى مفعول، كالحضور والحلوب والقذوع، وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي، وعائشة: ركوبتهم بالتاء، وهي فعولة بمعنى مفعولة. وقال الزمخشري: وقيل الركوبة جمع. انتهى، ويعني اسم جمع، لأن فعولة بفتح الفاء ليس بجمع تكسير. وقد عد بعض أصحابنا أبنية أسماء الجموع، فلم يذكر فيها فعولة، فينبغي أن يعتقد فيها أنها اسم مفرد لاجمع تكسير ولا اسم جمع، أي مركوبتهم كالحلوبة بمعنى المحلوبة. وقرأ الحسن، وأبو البرهسم، والأعمش: ركوبهم، بضم الراء وبغير تاء، وهو مصدر حذف مضافة، أي ذو ركوبهم، أو فحسن منافعها ركوبهم، فيحذف ذو، أو يحذف منافع. قال ابن خالويه: العرب تقول: ناقة ركوب حلوب، وركوبة حلوبة، وركباة حلباة، وركبوب حلبوب، وركبي حلبي، وركبوتا حلبوتا، كل ذلك محكي، وأنشد:
ركبانة حلبانة زفوف *** تخلط بين وبر وصوف
وأجمل المنافع هنا، وفضلها في قوله: {وجعل لكم من جلود الأنعام} الآية. والمشارب: جمع مشرب، وهو إما مصدر، أي شرب، أو موضع الشرب. ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار. {لا يستطيعون}: أي الآلهة، نصر متخذيهم، وهذا هو الظاهر. لما اتخذوهم آلهة للاستنصار بهم، رد تعالى عليهم بأنهم ليس لهم قدرة على نصرهم. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الضمير في {يستطيعون} عائد للكفار، وفي {نصرهم} للأصنام. انتهى. والظاهر أن الضمير في وهم عائد على ما هو الظاهر في {لا يستطيعون}، أي والآلهة للكفار جند محضرون في الآخرة عند الحساب على جهة التوبيخ والنقمة. وسماهم جنداً، إذ هم معدون للنقمة من عابديهم وللتوبيخ، أو محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار.
قيل: ويجوز أن يكون الضمير في وهم عائداً على الكفار، وفي لهم عائداً على الأصنام، أي وهم الأصنام جند محضرون متعصبون لهم متحيرون، يذبون عنهم، يعني في الدنيا، ومع ذلك لا يستطيعون، أي الكفار التناصر. وهذا القول مركب على أن الضمير في لا يستطيعون للكفار. ثم آنس تعالى نبيه بقوله: {فلا يحزنك قولهم}: أي لا يهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، وتوعد الكفار بقوله: {إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون}، فنجازيهم على ذلك.
{أوَلم يرى الإنسان}: قبح تعالى إنكار الكفرة البعث، حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة. أفضى به مهانة أصلة إلى أن يخاصم الباري تعالى ويقول: من يحيى الميت بعدما رمّ؟ مع علمه أنه منشأ من موات. وقائل ذلك العاصي بن وائل، أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف، أقوال أصحها أنه أبي بن خلف، رواه ابن وهب عن مالك، وقاله ابن اسحاق وغيره. والقول أنه أمية، قاله مجاهد وقتادة؛ ويحتمل أن كلاً منهم واقع ذلك منه.
وقد كان لأبي مع الرسول مراجعات ومقامات، جاء بالعظم الرميم بمكة، ففتته في وجهه الكريم وقال: من يحيى هذا يا محمد؟ فقال: «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم»، ثم نزلت الآية. وأبيّ هذا قتلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحُد بالحرية، فخرجت من عنقه. ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول، لأن السورة والآية مكية بإجماع، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة. وبين قوله: {فإذا هو خصيم مبين} وبين: {خلقناه من نطفة}، جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله في سورة المؤمنون: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} وإنما اعتقب قوله: {فإذا هو خصيم مبين} الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام، أي فإذا هو بعدما كان نطفة، رجل مميز منطيق قادر على الخصام، مبين معرب عما في نفسه.
{وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه}: أي نشأته من النطفة، فذهل عنها وترك ذكرها على طريق اللدد والمكابرة والاستبعاد لما لا يستبعد. وقرأ زيد بن علي: ونسي خالقه، اسم فاعل؛ والجمهور: خلقه، أي نشأته. وسمى قوله: {من يحيي العظام وهي رميم} لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله على إحياء الموتى، كما هم عاجزون عن ذلك. وقال الزمخشري: والرميم اسم لما بلى من العظام غير صفة، كالرمة والرفاة، فلا يقال: لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبراً لمؤنث، ولا هو فعيل أو مفعول. انتهى. واستدل بقوله: {قل يحييها} على أن الحياة نحلها، وهذا الاستدلال ظاهر. ومن قال: إن الحياة لا تحلها، قال: المراد بإحياء العظام: ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس.
{وهو بكل خلق عليم}: يعلم كيفيات ما يخلق، لا يتعاظمه شيء من المنشآت والمعدات جنساً ونوعاً، دقة وجلالة.
{الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً}: ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء، وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر. ألا ترى أن الماء يطفى النار؟ ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء. والأعراب توري النار من الشجر الأخضر، وأكثرها من المرخ والعفار. وفي أمثالهم: في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار. يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين، وهما أخضران يقطر منهما الماء، فيستحق المرخ وهو ذكر، والعفار وهي أنثى، ينقدح النار بإذن الله عز وجل. وعن ابن عباس: ليس شجر إلا وفيه نار إلا العنا. وقرأ الجمهور: الأخضر؛ وقرئ: الخضراء؛ وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء؛ وأهل نجد يذكرون ألفاظاً، واستثنيت في كتب النحو.
ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة، ومن إعادة الموتى، وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف العدم إلى الوجود، فقال: {أوَليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم}؟ وقرأ الجمهور: بقادر، بباء الجر داخلة على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام، ويعقوب: يقدر، فعلاً مضارعاً، أي من قدر على خلق السموات والأرض من عظم شأنهما، كان على خلق الأناس قادراً، والضمير في مثلهم عائد على الناس، قاله الرماني. وقال جماعة من المفسرين: عائد على السموات والأرض، وعاد الضمير عليهما كضمير من يعقل، من حيث كانت متضمنة من يعقل من الملائكة والثقلين. وقال الزمخشري: {مثلهم} يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السموات والأرض، أو أن يعيدهم، لأن المصادر مثل للمبتدأ وليس به. انتهى. ويقول: إن المعاد هو عين المبتدأ، ولو كان مثله لم يسم ذلك إعادة، بل يكون إنشاء مستأنفاً. وقرأ الجمهور: {الخلاق} نسبة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار، وزيد بن علي: الخالق، اسم فاعل.
{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}: تقدّم شرح مثل هذه الجملة، والخلاف في فيكون من حيث القراءة نصباً ورفعاً. {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء}: تنزيه عام له تعالى من جميع النقائص. وقرأ الجمهور: ملكوت؛ وطحلة، والأعمش: ملكة على وزن شجرة، ومعناه: ضبط كل شيء والقدرة عليه. وقرئ: مملكة، على وزن مفعلة؛ وقرئ: ملك، والمعنى أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى. والجمهور: {ترجعون}، مبنياً للمفعول، وزيد بن علي: مبنياً للفاعل.

1 | 2